الذين
يمرون مر السحاب!
وضع الأب طفله حديث الولادة على سرير الفحص (الشيزلونج) ثم جلس وعلى وجهه ابتسامة
راضية استشفيت من ورائها حزناً بملء الدنيا، وقال بتنهيدة مكتومة؛ وكأنه يلقي
حملاً ثقيلاً من على كتفيه: (هذا طفلي الجميل واخته التوأم الحمد لله بخير
بالبيت)!.
فقلت: (بارك الله لك فيهما، وألف حمداً لله على السلامة؛ ولكن كما تعرف أننا
نحتاج الأم؛ خاصة في أول ولادة؛ لتعليمها بعض الإرشادات المهمة؛ فكما يقولون أن (90%)
تقريباً من رزق أطباء الأطفال؛ يكون بسبب جهل الأمهات خاصة في أول سنتين)!.
فقال لي: (للأسف الأم لن تأتي)!.
فقلت لعل بعض الناس لا يحضرون الأم في أول زيارة؛ نظراً لتعبها؛ خاصة من
تكون ولادتها قيصرية: (بعون الله تأتي فيما بعد)!.
فقال من خلال دموعه: (أمهما يا دكتور توفيت أمس)!.
فلم تسعفني إلا بعض كلمات العزاء والتصبر والرضا، وأكملت الفحص؛ ولمعرفته السابقة بي؛ لاحظت أنه يريد أن يفضفض لي ببعض شجونه؛ فشجعته مهوناً مصابه ومذكراً
نفسي: (يا صديقي؛ دوماً إذا غلبتني نوازع نفسي وتكاثرت عليَّ همومي؛ فأقول لها
وأعاتبها؛ لعل الله يختبر محبيه فيقدر لهم أموراً يستصعبونها، ويكرهونها؛ ولكنهم
لا يدرون أنه يدفع عنهم بها مصائب أعظم منها!.
فلمجرد أنه يحب أوليائه ويشتاق لقربهم ويغار عليهم ويكره لهم بعدهم عنه؛
كما قال ابن عطاء الله رحمه في أروع حكمه:
"رُبَّمَا أَعْطَاكَ؛
فَمَنَعَكَ. وَرُبَّمَا مَنَعَكَ؛ فَأَعْطَاكَ".
"مَنْ لَمْ يُقبِلْ عَلَىَ اللهِ
بِمُلاطَفَاتِ الإِحْسَانِ؛ قِيِدَ إليْهِ بِسَلاسِلِ الاِمْتِحَانِ".
وهناك رباعية رائعة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في أروع تغريداته:
"قَضَاءُ
الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِيِ
عَبْدِهِ دَائِرٌ بَيْنَ العَدْلِ وَالمَصْلَحَةِ وَالحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، لا يَخْرُجُ
عَنْ ذَلِكَ البَتَّة".
لذا إذا أصابنا ما نكره؛ علينا أن نذكر أنفسنا بهذه الرباعية!.
فما حدث فهو بعدله!.
وإنها مصلحتنا التي يحبها لنا!.
وإنها حكمته التي لا نجهلها!.
وإنها رحمته بنا؛ التي وسعت كل شيء!.
فقد قرر ووعد سبحانه أنه:
"كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ". [الأنعام12]
وبحسن ظننا به؛ فلم ولن يستثنينا أبداً منها كما عوَّدنا)!.
فقال مفضفضاً: (الأمر ليست شدته
وصعوبته وألمه في مجرد وفاة زوجة وأم لطفلين؛ ولا في فقدي لرفيقة حياتي التي لا
أستطيع أن أحصي صفاتها الطيبة وتعاملاتها التي شهد لها الغريب قبل القريب!.
ولكن الألم الذي يطعنني كل لحظة؛ خاصة كلما نظرت أو شممت رائحة هذين
الصغيرين، وكلما وقعت عيناي على كل ركن في بيتنا؛ أننا حرمنا الإنجاب لأكثر من خمس
سنوات؛ وأخيراً وبعملية الحقن المجهري التي اعتصرتنا الأيام والليالي لنجمع
تكاليفها معاً!.
ثم يكرمنا ربنا فيحدث الحمل!.
ثم سريعاً تذهب وتتركني وحيداً مع حبيبينا الجميلين!.
فلم تفرح بهما وبرائحتهما إلا ثلاثة أيام فقط!.
حتى الفرحة حُرِمت منها!.
فلقد شاركتني آلامي وأحزاني!.
ولم تشاركني فرحتي!؟.
وهذا أقسى ما يؤلمني)!.
يا الله ...
هكذا قضاؤك وقدرك!.
فمن رحمتك أن تهب محبيك عطايا رقيقة سريعة؛ تشبه مرور سحابة طيبة ممطرة على
صحراء حياتهم بعد أن استيأسوا، وتحطمت أحلامهم، وتهاوت أسنادهم، وتقطعت بهم أسبابهم،
وتاهت خطواتهم؛ فتفرج عنهم فرجاً يليق بذاتك؛ فتنشر عليهم الرحمة، وتبث في نفوسهم
الأمل، وتقيهم لسعات الهجير، وتروي ظمأهم، وترطب صدورهم، وتسعد قلوبهم!.
وتنبت زهور الخير فيهم وفيمن وفيما حولهم!.
فتحول صحراء حياتهم القاحلة إلى حدائق مزهرة مبهجة!.
ثم تذهب هذه السحابة المباركة فجأة وفي صمت، وتنسحب دون ضجيج من مسرح
حياتهم!.
حتى وقبل أن يسدل الستار!؟.
هكذا كانت هذه الزوجة الطيبة والأم الرقيقة وأمثالها!.
يمرون على صحراء حياتنا مر السحاب!؟.
فاللهم لا تحرمنا سحائب رحماتك.
اللهم لا تفجعنا فيمن وفيما نحب.
اللهم قنا مصارع السوء فينا وفيمن وفيما نحب.
اللهم جنبنا ميتة السوء فينا وفيمن نحب.
اللهم إنا نسألك العافية.
اللهم إنا نسألك العافية.
ثم ...
د. حمدي شعيب
(5 يوليو 2018م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق