الخميس، 7 يناير 2021

هل استشعرت كيف يأتيك هرولة؟!

 
هل استشعرت كيف يأتيك هرولة؟!

هل مررت بمحنة قاسية فاستشعرت المعنى المؤلم؛ لضيق نفسك داخلك؟!.
وهل تذوقت مرارة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت؟!.
وهل عانيت استشعار أن الكون كله يقسو عليك؛ وكأنه جبل يضغط بثقله على منكبيك بلا رحمة فيقعدك؛ فتعيش بجميعك محنة كعب رضي الله عنه؟!:
"حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ". (التوبة118)
وهل وصلت لنقطة الانكسار؛ فاعتصرتك لحظة استيئاسك من الفرج؟!:
"حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ". (يوسف110)
وهل استشعرت اشتداد ظلمة الشدة؛ وقد انقطعت أسبابك، وأُغلقت أبوابك، وتهاوت أسنادك، وخذلك أصحابك؟!.
وهل وقفت عاجزاً مقهوراً؛ وقد احترِقَت كل سفنك؛ إلا من رحمته سبحانه:
"وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ". (التوبة118)
وهل فتشت عن أي ثغرة تحجب عنك رحمة مولاك، وتمنع إجابة دعائك؟!.
وهل عدت باللائمة على نفسك؛ فلربما ذنباً أذنبته؟!.
وهل لجات إليه بالمناجاة وبين يديك حاجتك؟!.
وهل اعترفت بأن السبب هو داخلك؟!:
"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ". (الأعراف23)
وهل أسرعت بالتوبة وأكثرت من الاستغفار والمناجاة؛ خاصة بدموع السحر!.
وهل قدمت بين يدي نجواك صدقة سر وخبيئة لا يعلمها إلا عالم الأسرار!.
وهل جاءتك هذه اللحظة الفارقة من التذلل والانكسار بين يديه؟!.
وهل علمت أنك قد بلغت مقام المضطر!.
عندها، وعندها فقط؛ فإنك تنبهر بأن مولاك قد أسرع إليك بالفرج!؟.
الفرج الذي يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه!.
الفرج الذي يأتيك من حيث لا تحتسب!.
الفرج الذي ليس لأحدٍ عليك فيه أي فضلٍ أو منة!.
الفرج الرباني الذي تتعجب منه، ويتعجب منه كل من يحيطونك؛ بل تتعجب منه الملائكة وأهل السماوات والأرض؛ وكذلك الوجود كله!.
مولاك كيف يحتفي بك؟!:
فقد حدثت مع صديق ذات يوم حادثة ملهمة وعجيبة!.
تؤكد كيف يحتفي ربنا بعباده؛ عندما يلجأون إلى رحابه؛ فيأويهم ويأخذهم في كنفه؛ وكأنه يغار عليهم من اللجوء إلى غيره؛ خاصة عند نوبات الانكسار؛ كما علمنا أبينا الأواه الحليم إبراهيم عليه السلام؟!:
"إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً". (مريم47)
فعندما استقال صاحبنا، وعاد من الخليج.
وقد كان يشغل منصباً مرموقاً ولكنه آثر العودة؛ لظروف عائلية خاصة!.
وهو لم يزل قادراً ليبدأ مشواره في بلده.
ومن المعروف أن قرار السفر صعب؛ ولكن الأصعب هو العودة من الغربة طواعية وبرغبة ذاتية!؟.
فإنه لا يقدر عليها إلا ذوو العزيمة والحماسة!.
لأن معظم وأكثرية المغتربين لا يعودون إلا قسراً وجبراً أو موتًا!.
ولما عاد واكتشف حال البلد المتردي، وصعوبة البداية؛ ولكنه أصر واعتبره تحدي لذاته قبل أن يتحدى بعزيمته الآخرين!.
وكان من معاناته؛ هو افتقاره للسيولة المالية؛ فكل ممتلكاته عقارات وكانت حركة البيع مثل هذه الأيام بها كساد وركود شديد!.
فأصر على المضي قدماً في مشروعه؛ حتى انتهت كل سيولته واحتاج احتياجاً شديداً للمال!.
وفي نفس الوقت لا يستطيع العودة للغربة؛ لأن كل الظروف لا تسمح له؛ خاصة احتياج والديه المريضين لوجوده!.
وذات ليلة اشتدت عليه الضائقة؛ ولا يريد أن يعلم أحداً من أقاربه بضائقته؛ إلا أسرته فقط كما تعود وعودهم!.
وكان حاله مثل صاحبنا؛ يمتلك عزة نفس لا تقبل أن يسوّد وجهه بالمسألة والاقتراض!.
فدعا ربه كثيراً؛ حتى ابتلت الأرض بدموعه؛ وتقرب إلى ربه بصدقة سر وخبيئة بين يدي نجواه!.
وتوسل إلى مولاه بأحب وأخلص أعماله الصالحة؛ مثل رصيده في بر الوالدين وصلة الرحم وماله الحلال وجبره للآخرين وكفالته لأيتام، وغيرها من أبواب الخير!.
ثم صمم بعزة نفسه؛ ألا يلجأ إلا إلى صاحب الخزائن سبحانه!.
وكان يحتاج لمبلغ معين مطلوب للمهندس المشرف على تجهيز مشروعه ليشتري لوازم المشروع وأجرة العمال!.
وفي الصباح جاءته مكالمة من صديق جاء في أجازة!.
وكان جاراً صالحاً له في الخليج رافقه وصادقه سنوات الغربة!.
فسأله عن أحواله؛ خاصة المادية؛ فأخبره أنه بخير؛ ولكنه نصحه وكل معارفه؛ ألا يعودوا إلا ومعهم سيولة؛ لتحفظ ماء وجوههم، وتعينهم على بداياتهم بعد العودة؛ لأن الظروف الآن قاسية جدًا!.
وأغلق صاحبه هاتفه مودعاً إياه بكل خير!.
ولم تمض إلا سويعات قليلة؛ حتى سمع طرقات على الباب؛ فأسرع ليفتحه؛ فوجد هذا الصديق؛ الذي كان يهاتفه في الصباح، فسر كثيراً لزيارته!.
وأثناء تقديم واجب الضيافة؛ لاحظ أن معه شنطة أخرج منها لفافة ناوله إياها؛ وهو يقول له بابتسامه ودودة:
(أنا مسافر غداً بعون الله!.
وصممت أن أزورك!.
وهذا المبلغ أردت إيداعه أمس في البنك؛ فتأخرت واليوم وغداً أجازة البنوك!.
فأرجو أن يظل معك؛ واقض به مصالحك، وعندما يتوفر لك ضعه في حسابي؛ متى شئت)!.
فشكره ممتنعاً؛ وهو يخاف أن يكون قد شعر بضائقته؛ التي لم يقصها؛ ولم يحدد له ما يحتاجه!.
فأقسم عليه؛ أنها تصاريف القدر ورحمة ربنا؛ ولعل فرصة زيارته له اليوم قبل سفره؛ هي من تدبير ربنا!.
وانصرف الصديق!.
وكانت المفاجأة واللطيفة الرباينة!.
والتي أذهلت صاحبنا وجعلته يسجد لله شاكراً؛ وهو يتذكر وعد مولاه للمقبلين على رحابه:
"وإِذَا أَتَانِيِ يَمْشِيِ أَتَيْتَهُ هَرْوَلَة". (البخاري)
فلأول مرة يتذوق ويستشعر حلاوة أن يأتيه مولاه هرولة!؟.
هرولة تليق بجلاله وعظمته سبحانه القريب المجيب!؟.
هرولة استجابةً لبعض خطوات يسيرة تقرب بها منكسراً إلى رحابه!!؟.
فلقد فتح صاحبنا اللفافة؛ ...
ليجد بداخلها بالضبط نفس المبلغ بالتمام والكمال؛ والذي كان يحتاجه اليوم مساءً!!!؟.
(د. حمدي شعيب - الثلاثاء 12 مارس 2019م)