الخميس، 2 أغسطس 2018

وكنزي عجزي!

وَكَنْزِيِ عَجْزِيِ!
ومن أروع هؤلاء المسافرين الذين لهم فضل عليَّ ممن رافقوني في مسيرتي الحياتية؛ هي (أم عثمان)!.
فمنذ سنوات حضرت إلي في المركز سيدة ريفية بسيطة متوسطة التعليم ومعها طفلها الرضيع (عثمان).
ومن التاريخ المرضي للطفل عرفت أنه طفلها الأول، وهو كذلك أول أبناء العائلة من الذكور ولك أن تتخيل قيمة هذه الهبة في عائلة عريقة والتي تنتمي إلى أصول القبائل العربية مثلي.
ونحن نصنفه كأطباء أطفال بأنه طفل له قيمة خاصة؛ (Precious Baby).
وحضور طفل من أقاصي المحافظة لي معناها أن أراعي المسافة والقيمة والعائلة والثقافة العربية ثم اختيارهم لي لرعايته.
 وتوالت الزيارات حتى غابت فترة؛ ثم جاءتني معتذرة لأنها لظروف عائلية ولبعد المسافة فقد اجتهدت في علاج صغيرها مع بعض الزملاء من الأطباء حولها من حمي مستمرة منذ أسابيع ولم تزل، وكان معها ملفاً كبيراً به تحاليل ووصفات طبية؛ فمعناه أنه دار واحتار على أعتاب العيادات وعلى سلالم المراكز الطبية وعلى أبواب المستشفيات؛ إذن لابد أن أجد له حلاً!.
فناقشتها ببساطة وقلت فلنكمل بعض التحاليل والفحوصات، وطمأنتها على أن الشفاء بأمر الله ونحن مجرد أسباب ونجتهد ونبني على ما سبق ولا نشكك فيمن قبلنا، فكل طبيب مثل المضيف يبذل كل ما يستطيع مع ضيفه لراحته، ويترك النتائج لله.
وعند الفحص وجدت (عثمان) الحبيب شاحباً لدرجة ملحوظة، ودرجة حرارته مرتفعة، ويبدو من آثار الحمى المستمرة وفقدان الشهية والتسمم الدموي يبدو هزيلاً مسكينا، ووجدت عنده تضخماً في الغدد الليمفاوية مع تضخم بالطحال والكبد؛ وبدأنا علاجاً أولياً حتى استكمال بعض الفحوصات المعملية والأشعات.
وجاءت النتائج مقلقة وتثبت أنه يعاني من مرض نادر يسبب تكسر بمكونات الدم.
والأشعة التليفزيونية تثبت هذا التضخم في الطحال والكبد والغدد الليمفاوية.
فأرسلتها لأحد أساتذتي المختصين بأمراض الدم عند الأطفال.
وكان معي على اتصال وأخبرني أنه يعاني من مرض نادر يسببه اختلال بجهاز المناعة!.
واستمر العلاج والمتابعة وطالت المدة!.
حتى جاءتني يوماً باكية منهكة مرهقة ومعها طفلها وقد يئست من الشفاء؛ ونظراً لقيمة (عثمان) ولظروفها وطيبتها وسيرتها الطيبة بين العائلة؛ تركتها تفضفض وتشكو وكيف أنها قد أرهقت وتعبت وتعب طفلها وأهلها.
فقلت لها وأنا اجتهد لإخفاء تأثري أمام كلماتها اليائسة ولعلمي أنها من الريفيات البسيطات ومن قوّام الليل، ومن صحبة قافلة السحر؛ ولكن دون ضجيج: (أم عثمان ليس أمامنا إلا الاستمرار مع هذا الأستاذ الدكتور، وهو رجل خلوق وماهر، ونحتاج الصبر؛ ولكن ...!).
نظرت إلى دامعة وتمتمت بكلمات مهدودة مثلها: (يعني إيه لكن دي يا دكتور؟!).
قلت: (هناك طبيب أنا جربته كغيري ولم يخذلنا، وبابه مفتوح خاصة في السحر، اذهبي إلى جبار المنكسرين وأكثري من السجود وبللي الأرض بدموعك.
وقولي له: وعزتك وجلالك؛ أنا تعبت وعثمان تعب والأطباء تعبوا، ومن حولي تعبوا، فلا تدعني.
وأقسمي عليه وحدثيه في سجودك واكسري الحواجز ولا تتحرجي.
ورددي دعوات لا أدعها؛ وهي مناجاة الإمام سعيد النورسي رحمه الله:
يَا رَبِّيِ ...
يَا خَالِقِيِ ...
يَا مَالِكِيِ ...
حُجَّتِيِ عِنْدَ نِدَائِيِ؛ حَاجَتِيِ.
وَعُدَّتِيِ عِنْدَ دُعَائِيِ؛ فَاقَتِيِ.
وَوَسِيِلَتِيِ؛ اِنْقِطَاعُ حِيِلَتِيِِ.
وَكَنْزِيِ عَجْزِيِ. وَكَنْزِيِ عَجْزِيِ. وَكَنْزِيِ عَجْزِيِ)!.
وذكرتها بمعانٍ جميلة؛ أنا احتاجها دوماً في كل لحظة؛ خاصة تلك التي قد جربتها مثلها؛ أن ربنا يسعفنا عندما نستشعر أن ظهرنا للحائط؛ وقد أحترقت كل سفننا!.
"وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ“. [التوبة118]
وهنا؛ وهنا فقط!؟.
تبدأ بذور الفرج عند يأسنا من الأسباب الأرضية!.
فنفتش في داخلنا عن ذنبٍ يحول بيننا وبينه!.
وتذكرت الآية المطمئنة الحانية:
"وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً". [الكهف45]
فمنها أن يبيت الرجل مهموماً؛ وقد استيأس من هموم قد تكالبت عليه؛ فيصبح وقد رحمه مولاه بانفراجه لم يتوقعها؛ انفراجه تليق بجلاله وسلطانه؛ انفراجه ليس لأحد فيها فضل ولا منة؛ انفراجه يعجب منها العباد حتى الملائكة!.
والأهم أن نحسن الظن بربنا؛ وسيعطينا ما نتوقعه:
"فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ". [الصافات87]
وانصرفت (أم عثمان) ودموعها تنساب على جبينها!.
ومرت السنوات وكثيراً ما أرسلت لي السلام مع أقربائها وجيرانها.
وكل مرة أتحاشى أن أسأل عن تفاصيل حالة (عثمان) واكتفي بردهم أنه بخير!.
حتى دخلت عليّ ذات يوم بطفلٍ جديد وبنفس الابتسامة الطيبة!.
فتحاشيت أن أسأل عن (عثمان) وحالته، وماذا صنع الله به وبهم!.
ولكنني وجدتها تعاجلني وهي فرحة والدموع في عينيها:
(عثمان بيسلم عليك!.
وعمره الآن اثني عشرة سنة وقد شفاه الله تماماً!.
ومنذ عشر سنوات، وأنا أحافظ على قيام الليل!.
ولا تمر ليلة إلا وأدعو لك!.
وأردد كلمتين فقط؛ وهما فقط ما حفظته منك!.
وهو: وَكَنْزِيِ عَجْزِيِ)!.



ثم ...
د. حمدي شعيب
(2 أغسطس 2018م)

ليست هناك تعليقات: