الخميس، 16 أغسطس 2018

الحلال لا يكفيني!؟

الحلال لا يكفيني!؟
في إحدى أمسيات رمضان وكالعادة نظراً للزحام لا استقل سيارتي بعد التراويح وأذهب للعيادة بالتاكسي!.
وغالباً ما أجدها فرصة طيبة لأحاور السائق؛ خاصة الشباب منهم لأعرف اتجاه الريح!؟.
ولأتعلم من تجارب الآخرين في الحياة!.
فيعجبني جداً الشاب الذي يعمل ويكدح لأكل العيش ولا (يتسكع) على (الكافيهات)، ولا يكون عالة على أهله ويعولونه، بينما هو يقعد ليلعن الظروف!.
وقد لفت نظري انشغال السائق لفترة في مكالمة من هاتفه (الآيفون)!.
ثم أعجبني نظارته (الشياكة) وساعته الغالية؛ بل وملبسه ومظهره وطريقة تصفيف شعره!.
وطبعاً التاكسي موديل جديد ونظيف!.
فلقلت له: (أكيد أنت لك وظيفة غير التاكسي؟!).
فقال بثقة واعتزاز: (طبعاً؛ أنا عندي محل أكسسورات سيارات)!؟.
فزاد استغرابي لأنني أحب من يعمل في مهنة حرة ولا ينتظر وظيفة حكومية أو عملاً عند أحد!؟.
فسألته مندهشاً: (فلماذا تترك محلك وتعمل على التاكسي؟!).
فأجاب سريعاً وكأنه كان متوقعاً لسؤالي: (أخي في المحل يديره، ومعه عمال؛ بينما أنا لا أحب الجلوس في المحل؛ بل أحب التجوال؛ خاصة قيادة التاكسيات)!.
فسررت به جداً!.
حتى جاءته مكالمة أخرى يطلب فيها من محدثه؛ أن يمهله فترة في تسديد أقساط بضاعة لمحله!؟.
وعند نزولي؛ طلب مني أجراً أكثر من باقي التاكسيات؛ فضحكت معه، وقبلت طلبه؛ وكأنني معجب بطريقته في الحياة!.
ولأنني كقاعدة فيمن يعمل حراً أو عند أجيراً عند أحد؛ أن أسأله عن مصدر الحلال في ماله؛ حتى أعطيه حصاد خبرة ستينية في أهمية المال الحلال وبر الوالدين وصلة الرحم؛ كركائز وأبواب لأعظم مصادر البركة؛ والتي لا ولن نكتشفها إلا بعد حصاد العقد الخامس من العمر!.
خاصة وأنني لم أزل أعايش تجربة مؤلمة حدثت مع صديق قريب؛ كان عنده في عمله موظفاً لسنوات؛ وكان يعتبره تربيته وأحد أبنائه!.
ثم اكتشف أنه كان بعد هذه المدة من الأمان وحسن التعامل والثقة، وإغداق المال، ودعوته لبر الوالدين والصلاة وقراءة القرآن؛ أنه كان وبانتظام يخونه ويسرق منه!.
وقد بدأ الشك حوله؛ عندما رآه في منامه في صورة سيئة مخيفة؛ وكأن الله لا يريد له هذا الخائن، وأن يكشفه له ويدعوه لركله خارج مؤسسته؛ كما جاءت الرؤية بهذه الصورة، وحتى لا يندم أو يشعر بالحرج على إنهاء عمله معه!.
فاستغرب هذه الرؤية أولاً، وكذب نفسه في تأويلها؛ حتى أظهر الله له الحقيقة سافرة ومؤلمة وصادمة!.
وطبعاً أنهى خدمته من العمل، ولم يزل يعاني من هذه الصدمة النفسية من تغير أحوال البشر!.
ولقد طيبت خاطره؛ بأنه ابتلاء وقد استغل ثقتك، ولقد نجاك ربك منه!.
فسألت محاوري: (بصراحة؛ أخبرني هل تعامل مالك التاكسي بالأمانة والحلال؟!).
فنظر إلي باستغراب وبكل جرأة: (يا دكتور؛ بصراحة لو اعتمدت على الحلال فلن أستمر في هذا العمل يوماً واحداً!.
ولن أكذب عليك يا دكتور؛ الحلال لا يكفيني)!!!؟؟؟.
فأخرسني رده، وصدمتني جرأته على الحرام، وعدم خشيته من الله!.
ونزلت مذهولاً!.
وليس على لساني إلا الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به!.
وعندما قصصت لزوجتي الحوار المؤلم والصادم؛ أخبرتني مهونة عليَّ حزني وصدمتي؛ أن الأحوال العامة والظروف الاقتصادية غيرت الناس وقلبت موازينهم؛ فأصبح همهم المال دون التقصي عن مصادر حلِّهِ وحُرمته!.
وللآن لم أزل مشغولاً؛ بهذا الشاب وحواره الذي آلمني!.
وما آلمني أكثر؛ أنه كان في رمضان!؟.
ولكنني وجدت الإجابة التي أراحتني، وطمأنتني على حصاد مسيرتي الحياتية!.
فعندما راجعت خبرتي الستينية!.
وحاورت ذاتي لأطيب خاطرها؛ بقناعاتي الشخصية؛ والتي أدعو الله أن يثبتنا عليها ويعافينا!.
قالت لي خبرتي:
(أن الله عز وجل يرزق عبده بالحلال!.
ويرزقه من خزائنه ما اجتهد وبذل جهده!.
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ“. [الحجر21]
بل لم يستثن أحداً من رزق الدنيا حتى عصاته!.
"وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظوُرَاً". [الإسراء20]
بل ويبارك له في رزقه؛ الذي لا يكون في المال فقط؛ بل في زوجة يسكن إليها، وفي ولد يقر عينه به، وصحة لا تقعده، وعلاقات طيبة مع الآخرين!.
وأروع من ذلك هو السلام النفسي؛ خاصة في أواخر العمر!.
فيسخر ما وهبه الله في الدنيا في شكره وحسن طاعته ليحصد بركته في الدنيا ثم في الآخرة!.
والأهم أن ييسر له طريق الطاعة والخير؛ ما استقام على تحري الحلال!.
فإذا تجرأ على الحرام؛ فتحت عليه أبواباً مرعبة من قلة البركة، لا يسدها إلا هذا الحرام!.
بحيث لا يكفيه المال الحلال لسد هذه الأبواب!.
وإذا تجرأ أكثر، زاد الله في استدراجه له والعياذ بالله؛ فيسلط عليه من يفعل به كما يفعل بالآخرين!.
كما نبهنا ابْنِ عَطَاءِ اللهِ رَحِمَهُ اللهُ:
"خَفْ مِنْ وُجُوُدِ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ.
وَدَوَامِ إِسَاءَتِكَِ مَعَهُ.
أَنْ يَكُوُنَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجَاً.
"سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُوُنَ" [الأعراف182]".
ويظل العبد في دائرة جهنمية كالحمار يدور في الرحى!.
ومن رحمته أنه يعطيه الفرصة للتوبة!.
فإذا لم يرعوي أخذه بغتة؛ فلم يفلته والعياذ بالله!.
كما حذرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم:
"إِذَا رَأيْتَ اللهَ يُعطي العَبْدَ مِنَ الدُّنيَا عَلَىَ مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فإِنمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ.
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ". [الأنعام44] [أحمد]
وكذلك هذا الشاب؛ سُلِّط عليه أخيه ومن معه؛ لعلهم يصنعون في ماله ما يصنع هو بطريقته في الحياة؛ خاصة مع مالك التاكسي!.
ولم استغرب رجاءه بتذلل لصاحبه؛ أن يمهله في دفع الأقساط التي عليه للمحل!.
وهكذا تجري به سننه سبحانه الإلهية؛ وهي سنة الاستدراج وسنة الجزاء من جنس العمل!.
وكما تدين تدان)!!!.







ثم ...
د. حمدي شعيب
(16 أغسطس 2018م)

ليست هناك تعليقات: