الخميس، 6 سبتمبر 2018

لن تمسكوا رحمته!

 لن تمسكوا رحمته!؟
سيدة ريفية بسيطة في العقد الثالث من العمر، تحمل طفلاً جميلاً عمره سنة ونصف.
وكانت شكواه ارتفاع في درجة الحرارة منذ أيام.
والذي يعامل الأمهات خاصة المصريات وخاصة الريفيات منهن؛ يعلم مقدار الرعب الذي يكمن في داخلهن من ارتفاع الحرارة أو الحمى التي تصيب أطفالهن!.
ولكن ورغم توترها المتوقع على ابنها؛ فالابتسامة الهادئة وعلامات الرضا كانت لا تفارق وجهها!.
وكما تعودت من زبائني؛ خاصة القدامي؛ غالباً ما يكون مناقشتهن في التاريخ المرضي لأطفالهن؛ استشعر خلالها مدى حاجتهم للفضفضة!؟.
وكما جاء في الكتاب الممتع في العلاقات الإنسانية (الرجال من المريخ النساء من الزهرة)؛ ومن واقع  خبرتي واهتمامي بمجال تربية الأبناء والعلاقات الأسرية!.
فيقال أن الرجل إذا فضفض؛ سواء للآخر كالصديق أو للزوجة؛ فإنما يريد الرأي والمشورة!.
أما النساء فالفضفضة عندهن؛ فهي لمجرد الفضفضة، واستشعار الاهتمام من الآخر!؟.
وكثيراً ما نبهت في استشاراتي ودوراتي وكتبي؛ لهذه القاعدة المهمة؛ خاصة بين الزوجين!.
فلما رأت أنني سعدت بأن ترتيب هذا الطفل؛ هو الثاني بعد خمس سنوات من الطفلة الأولى!.
وذلك لأنني أنصح الزوجين دوماً؛ أن يكون بين كل طفل والآخر مدة لا تقل عن سنتين أو ثلاثة!؟.
حتى تسترد صحتها، وتتفرغ لزوجها ولو سنة دون حمل أو رضاعة!.
فعندما علقت: (جميل جداً لكم؛ أن تكون هناك مسافة بين الطفلين!).
ابتسمت، وقالت: (لو علمت السبب؛ بل وقصتي كلها؛ لتعجبت؛ فهذا كله ترتيب غريب وإرادة من ربنا لينصرني، ويخذل كل من حاولوا تيئيسي ومنع رحمة ربنا عني!).
تأثرت بهذا المدخل الجميل في حكايتها؛ وكأن التجربة صقلتها فأبدعت في تعبيراتها!.
ثم واصلت حكايتها وفضفضتها، ومن غرابتها وتأثري الشخصي بها؛ وهي كأنها رسائل يرسلها ربي إلي شخصياً مع كل حالة من مرضاي!.
لذا فقد  استأذنتها أن أكتبها من ضمن حلقات في كتابي الجديد؛ والذي كتبت في مقدمته:
(نحن مسافرون في قطار هذه الحياة.
يرافقنا البعض ويتركنا البعض!.
حتى نصل إلى محطتنا الأخيرة!.
فنغادر ويواصل القطار رحلته بغيرنا!.
وبعض المسافرين الذين تقابلهم يضعون بصمتهم على حياتك!.
بل وينحتون آثاراً في داخلك أعمق من نحت الصخور!.
لذا قلما تنساها!).
ونعود لمحدثتي؛ التي أسعدها أن أكتب قصتها؛ بل شكرتني على ذلك، وذكرت لي أن زوجها من أقاربها؛ وأنه تربية شيخ فاضل يعرفني وأعرفه؛ وأنه نعم التلميذ الخلوق الراضي الودود لشيخه الجليل!.
ثم ومن الأيام الأولى لزواجها؛ بدأت أولى الصدمات الثلاث النازفة؛ التي واجهتها في حياتها؛ ولعل المقصود منها هو كسر خاطرها، وتقليم شوكتها، وتعجيزها!.
والغريب أنها يجمعها جميعاً محور واحد، وهدف واحد؛ ألا وهو عندما يسلط عليك مجموعة من البشر؛ يحاولون تيئيسك، ويحاولون منع رحمات الله!.
والتي جعلتني؛ أذكر محدثتي؛ برسالة مولانا الرائعة:
مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا“. [فاطر2]
فهي إعلان عام، وقرار إلهي!؟.
أن من رحمته ليس فقط بأن تستشعرها؛ وكأنها مظلة تقيك الابتلااءات، أو درعاً يقيك مكر الظالمين. أو كنزاً للبركة والخير!.
بل أن يملأ كيانك الثقة وحسن الظن بأنه إذا فتح لك رحمته؛ فستستمر معك، ولن تنقطع!.
وقد جعل رحمته مبهمة لتكون جامعة شاملة، وشبهها بكنوز وخزائن للخيرات. وبيده وحده مفاتيحها. فإذا فتحها فلا تسل عن كيفيتها ونوعيتها ومقدارها ومدتها ومنعها!.
فإذا أراد أن يهبك من رحماته من كل خير ورزق بمعناه الواسع وليس المال فقط؛ فسيعجز سواه عن منعها!.
فكيف بأحدٍ من البشر أن يجرؤ؛ ولو بالقول؛ بل ولو بالتلميح؛ أن يمنع عطايا ربنا؟!.
وقد علمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ كيف نطمع فيما عند ربنا الغني الحنان المنان:
إِذَا تَمَنَّىَ أَحَدُكُم؛ فَلْيُكْثِر؛ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ“. [السلسلة الصحيحة]
ففي حضرة الغني؛ تمنَّى وأكثِر، واطلب المستحيل، ولا تتحرج ولا تقلل من قائمة دعواتك ولا تخفض سقف توقعاتك!.
فالغني لم يخيب راجياً، ولم يرد سائلاً، ولم يخذل مقبلاً، ولم يغلق باباً!.
ولنعود إلى الثلاثي التعيس الذين حاولوا تيئيس هذه المسكينة الصابرة وزوجها الراضي!.
فبعد أسبوع من الزواج؛ تلقت الصدمة الأولى؛ أو إن شئت قلت الطعنة الأولى!.
وذلك عندما قال لها شقيق زوجها الأكبر: (أمامك فرصة سنة؛ إذا لم تنجبي فسأزوج أخي بأخرى)!؟.
لذا فقد هرولت في الشهور الأولى لتراجع مع أطباء النساء بحثاً عن درعٍ يقيها سهام هذا التهديد اللاأخلاقي المتغطرس!؟.
وكانت النتيجة أن فشلت كل محاولات الحمل!.
حتى قابلت الشخصية الثانية في مسيرة التيئيس؛ وهو أحد أساتذة طب النساء المشهورين في اسكندرية؛ والذي قذف في وجهها كلماته الصادمة، وكما قال بنفس ألفاظة القاتلة؛ وبعد أن استنزف ما في جيوبها وجيوب أهلها من الأموال: (ليس هناك أمل؛ فأنت كالأرض البور)!!!؟.
وأخبرتني بألفاظ ريفية بسيطة: (لقد دعوت ودعوت ودعوت؛ وبكيت دماً؛ بعد أن جفت دموعي التي ملأت أكثر من ماء ترعتنا)!؟.
وبعد عامين؛ دلها شقيقها على طبيب طيب فتح لها باب الأمل؛ وبعلاج بسيط لمدة شهر!.
وكان الرد من ربنا على من حاول الإمساك برحماته ومنعها؛ لقد حملت، ورزقها ربها بطفلة جميلة!؟.
ثم مرت خمس سنوات، لم تنجب فيها!.
وعادت لمحاولات الإنجاب مع طبيبة؛ شاء الله لها أن تكون ثالثة ثلاثي التيئيس؛ حيث قالت لها: (كفاية عليك؛ ولا تحاولي معي أو مع غيري)!.
فتوقفت عن العلاج، وسلمت أمرها لربها!؟.
ورضيت بقدرها، ولجأت لطبيبها الذي عرفته من قبل، وعرفت طريقته في الرزق، وفي إرسال رحماته على عباده؛ خاصة اليائسين!؟.
إنه صاحب الخزائن!.
"وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ". [الحجر21]
فهو يرزقك بقدر؛ بحكمته وبعدله، وفي أنسب الأوقات وأصلحها لك وللكون كله؛ فلست وحدك!.
ويعودك ألا تتعجل إجابته:
وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ“. [الرعد8]
ولكنه يغار عليك أن تركن إلى الأسباب؛ فيتركك لها، ويجعلك تدور وتدور معها؛ حتى تستيأس منها!؟.
"حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا". [يوسف110]
فعند اللحظة التي تستيأس فيها من حولك وقوتك؛ فتتهاوى أسنادك، وتخذلك أسبابك الأرضية؛ عندها فقط يأتي الفرج!.
الفرج الميأوس غير المتوقع وغير المحسوب!.
لذا فقد رزقها ربنا دون علاج؛ وبعد التسليم له تماماً؛ بهذا الطفل الجميل الذي يبتسم لي الآن!؟.
وكأنه يفهم حواري مع والدته!.
وكأنه يوافقني على خواطري المتواضعة!؟.
وكأنه يقرني في تعقيباتي على قصتهم الرائعة!؟.
وكأنه سعيد لأن الرسالة قد وصلتني؛ كما وصلت والديه!.
إنها الرسالة التي كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يذكرنا بها كل ركعة!.
فبعد الوقوف من الركوع كان يردد دوماً:
"اللهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ". [مسلم]
إنها الزاد الشفوق، والرسالة الحانية؛ التي تستشعرها دوماً عند خروجك من صلاتك!.
خاصة لقاء السحر!.
وهي؛ أي عبدي لا تبتئس؛ وأنا معك، وكن اثقاً من مولاك، راجياً ما عندي، ومن خزائني الملأى، متفائلاً بدخولك رحمتي، متحدياً وساوسك، وقلقك، وخوفك، وكل من يحاول تثبيطك؛ واهتف؛ (لن تمسكوا رحمته)!؟.



ليست هناك تعليقات: