يا عزيزي كلنا بريجينيف!؟
منذ حوالي ثماني سنوات، وفي حفل زفاف
ابنة أحد الأصدقاء المقربين الملتزمين؛ حيث كان يتميز الحفل بأنه ليس فيه هذا
الاختلاط الشديد؛ مثلما يحدث في حفلات هذه الأيام عموماً.
فكان مسموحاً أن تجلس مع أسرتك، أو مع
أصدقائك الرجال!.
وفي جو هادئ ممتع، وبلا هذا الإزعاج
والصخب المثير للأعصاب؛ بل من بعيد موسيقى خفيفة!.
وكأنهم حاولوا جاهدين أن يكون الحفل ملتزماً
مع عدم التشدد!.
وكنت معجباً به!.
ولكن على إحدى الموائد جمعني حوار عاصف مع
بعض الشباب المتحمس والمتنمر!.
وكان الحوار الذي كان وليد المناسبة؛ حيث
بدأ السؤال وكأنه محاكمة لتجربة جيل؛ عاصر الحالة المصرية المتخبطة منذ
السبعينيات: (لقد حملتم حلم التغيير، وبشعارات الحل الإسلامي، وبدأتم مجتهدين ببعض
التغييرات الهامشية من نشر الحجاب، وتغيير جمهور العمرة والحج من سن الشيوخ إلى
الشباب، وبمحاولة تغيير أعراف المجتمع مثل الأفراح؛ حيث كانت تتم في المساجد!.
ولكن الملاحظ الآن لمحصلة التجربة؛ كما تبدو
أحوالنا وأوضاعنا؛ هو أننا اقتربنا من أعراف الناس، وهم لم يقتربوا منا!.
فهل نحن غيرناهم، أم هم غيرونا؟!).
كيف ستجيب
أحفادك؟!:
وكانت خلاصة إجاباتي: (نعم؛ كم هو مؤلم هذا الصراع النفسي، أو استشعار العجز؛ عندما تصطدم أحلامك
بثقل الواقع، ومن خلفه من المنتفعين، والحواريين؛ الذين يقتاتون عليه وعلى استمراره!.
ولكن ما يشرفك؛
هو أنك كفرد؛ تفخر برصيدك الحياتي؛ فتستشعر أنك على الحق ولك قضية، وأنك تدفع ثمن
تمسكك بها!.
حتى وإن خانك
من حولك، أو تفرق جمعكم قهراً أو خوفاً أو ضعفاً!.
إنها إشكالية
النظرية والتطبيق، أو عندما تكون أحلامك أكبر من إمكاناتك؛ أو إذا اصطدمت بقسوة
الواقع وحوارييه، وعمق التحول الاجتماعي؛ بسبب الضغوط الاقتصادية والمعيشية
والفكرية والمناخ السياسي!.
ودوماً؛ أقول
لجيلي أو ما أسميه بجيل الأحلام المسروقة؛ هو أن كل منا عليه أن يعد نفسه لإجابة
واضحة؛ عندما يواجهك أحفادك ذات يوم؛ فيسألونك أو يحاكمونك بأسئلتهم:
جدنا العزيز؛
لقد عاصرت أحداث وصراعات؛ أثرت عليكم وعلينا ومن سيأتي بعدنا!.
فماذا كان
موقفك؟.
وأين كان موقعك؟!.
هل كنت في ركاب
الحق حيث دار أم كنت من راكبي الموجة؟!.
لذا كانت
خاطرتي التي أعددتها؛ في حوار مع حفيدتي؛ لتلخص تجربتنا:
أيا صغيرتي؛ لا تعجبوا منا!.
فنحن مثكلم
كثيراً ما حلمنا!.
ففي بعضها
نجحنا وصبرنا!
ولكن كثيراً ما
سقطنا وفشلنا!.
فبربكم إن
أحصيتم هزائمنا!.
فأنصفوا؛ ولا
تنسوا مآثرنا!.
ألا يكفينا
شرفاً أننا قد حاولنا!.
ألا يشفع لنا
فضله علينا؛
أننا ما
كُسِرْنا؟!).
عاصفة يناير
والتحول الاجتماعي:
ثم تلى هذه
الحادثة بشهور قليلة أحداث عاصفة، بدأت مع (25 يناير) وتداعياته التوسونامية على
الجميع؛ بما فيهم الشباب!.
والعجيب أنه ذات
يوم بعدها؛ جاءني أحد هؤلاء الشباب المتحمسين الذين حضروا هذا الحوار، وذلك ليدعوني
لحفل زفافه؛ وقد علمت أنه اقترض مبلغاً من المال ليسدد مطالب الزواج!.
ولما حضرت
الحفل؛ كم أذهلنا نظام الحفل؛ والقاعة التي استأجرها؛ رغم أحواله الصعبة؛ لدرجة أن
البعض من الملتزمين خرج غاضباً؛ وهو يقول لي: (أيرضيك هذا الحفل؛ ما الذي يحدث
لشبابنا، ما الفرق بيننا وبين الناس؟!).
فسبحان الله!.
تتكلم كثيراً؛
ثم عند التعامل والتطبيق يجرفك تيار الواقع العاصف!.
ولعل من أروع
ما صور خطورة هذا التحول الاجتماعي للمجتمع وعاداته وتأثيراته وتداعياته؛ خاصة على
الطبقة المتوسطة؛ وكيف أرهقت نفسها وراء المظاهر حتى عمقت بنفسها انحدارها
الاقتصادي؛ هو كتاب (ماذا حدث للمصريين؟!) للدكتور جلال أمين؛ مع أنه يصف الحالة
المصرية في التسعينيات؛ وذلك عندما فتحت مجلة (الهلال) هذا الملف، فكتب فيه وغيره من
المفكرين عدة مقالات وبحوث؛ فجمع هو مقالاته في هذا الكتاب الممتع!.
التحول
الاجتماعي ... والتغول الاجتماعي:
ولعل من مظاهر
هذا التحول الاجتماعي؛ أن شاهدنا ظاهرة (الدعاة الجدد)؛ بل و(الداعيات الجدد)!.
وذلك لتمرد
المجتمع؛ خاصة الشباب على التدين الأزهري المتجمد والتقليدي؛ فوجدوا البديل الذي
يروقهم!؟.
ولكن من تأثير
بريق الفضائيات وأضواء الكاميرات وفتنة رسائل المعجبين؛ أن تحولوا وتحولن إلى ما
يشبه (ظاهرة الداعية النجم)؛ من حيث اهتمامهم واهتمامهن بالمظهر العام؛ وبطريقة
مقززة؛ من أزياء غيرت الصورة الشرعية؛ بل ونظرة المجتمع للحجاب الملتزم والداعية
الملتزم!.
فتحولوا وتحولن
إلى ما يشبه عارضي وعارضات الأزياء!.
وظهرت آثار
زيارة مراكز التجميل؛ من فنون زراعة الشعر والنفخ والشد وكل ما يخطر ببالك!.
والخطير أن
يطال ذلك التحول؛ بعض الأزهريات؛ بل والمنتقبات منهن!.
وأصبحت أخبارهم
وأخبارهن تنافس أخبار نجوم الفن والكرة!؟.
حتى في الزواج
والطلاق؛ وطبعاً يستندون إلى التبريرات الشرعية الجاهزة!؟.
والظاهرة الأخطر؛
أن امتد الآن وبصورة فجة؛ ليشمل مذيعي قنوات ما يسمونها بالشرعية (الاستانبولية)!؟.
لدرجة أن أحدهم
وهو من الشباب المقربين من القيادات وأصبح على رأس فضائياتهم؛ أنه كان في فترة
حداد وعلى الشاشة شريط أسود؛ ورغم هذا كان من شدة ولعة بالمنديل في جيب (الجاكيت)؛
أنه نسي أن يبدله من الأبيض إلى الأسود!؟.
حتى أصاب
الشباب في مقتل؛ لأن هذا يعطي انطباعات سيئة؛ أقلها أن أصحابهم باعوا القضية،
وعاشوا في (السبوبة) الثورية؛ وتحولوا إلى ما يشبه مناضلي فتح في السبعينيات في
فنادق بيروت!؟.
لننتقل من
مرحلة التحول الاجتماعي؛ إلى منحدر التغول الاجتماعي!.
عصا موسى تعود
من جديد:
ومنذ أيام شغلت المجتمع المصري؛ بل
والعربي أيضاً؛ حادثة تتكرر كل فترة ومعادة بالكربون!.
حتى ذكرتني بفيلم المبدع (عاطف الطيب)
رحمه الله في فيلم (الهروب)؛ وكيف تتم العملية الجهنمية لإلهاء العامة، وإشغال
الدهماء بأي فرقعة إعلامية؛ سماها السيناريو أنها (عصا موسى) التي تأتي وكأنها
قنابل دخان لتعمية الرأي العام عن أحداث جلل سواء سياسية أو اقتصادية أو غيرها!.
وهي قضية فنانة تخلع الحجاب وتعود
للتبرج!.
أو زواج وطلاق أحد نجوم الدعاة الجدد!.
لينشغل الناس بعصا موسى الساحرة!؟.
وبالتالي تزيد في تعميق ظاهرة الاستقطاب
بين كل فصائل المجتمع المفتت!.
ليوظف كل فريق الحدث لصالحه؛ وذلك لكسب
النقاط في حلبة التحلل والتحول بل التغول الاجتماعي!.
ولعل من أغرب ما قرأت؛ هو تعليق تبريري
خبيث لأحدهم؛ الذي ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ عندما قال: (ماذا تفعل المسكينة؛
ولقد رأت انكشاف وانفضاح حقيقة ظاهرة الدعاة الجدد الذين أقنعوها بالحجاب؟!)!!!.
يا عزيزي كلنا بريجينيف!؟.
بل والأعجب؛ وهو ما يفسر لنا إشكاية
النظرية والتطبيق أو صراع الأحلام مع ضغط الواقع؛ لتتحول إلى ظاهرة أخرى مزرية ومقززة؛
وهي إشكالية (النفاق الاجتماعي)، أو العيش في ثوب (السبوبة)!.
وهو أنني منذ أيام قرأت أن أحد المشائخ
الفضائيين؛ والذي كان له هالة ثورية أيام مجده؛ حيث كان (خطيب الثورة)؛ وقد وقف
منافحاً ومبرراً ومضللاً عن أحد الدعاة الجدد؛ والذي دخل في منطقة موضة الشيوخ الجدد
لهذا الزمان؛ وهي كثرة التعدد؛ فأصبحت أخباره إما زواج جديد أو طلاق ومن ممثلات
ونجمات؛ فدافع عنه بكلمة صادمة؛ فليته ما دافع ولا نطق؛ وهي: (هل تظنون أننا نعمل
بما نقوله لكم؟)!!!؟.
تماماً وكما جاء عن الروائي الكبير
(إحسان عبد القدوس) رحمه الله؛ في رواية (أنا حرة)؛ وذلك عندما صدمت الفتاة التي
كانت مبهورة بمثالية كاتبها المفضل وبرواياته الرومانسية؛ التي كانت تدغدغ أحلام
الشباب؛ فإذا بها تكتشف مجونه وخلاعته، وأنه زير نساء محنك!.
فرد عليها بنفس كلمات وحجة شيخنا الثوري
اللامع!؟.
وذكرني أيضاً بالزعيم الشيوعي العتيد (بريجينيف)؛
الذي كان مولعاً بالسيارات؛ فكان يقتني الكثير من أفخم وأحدث الموديلات؛ والتي
كانت غالباً ما تأتيه كهدايا من الزعماء والرؤساء!؟.
وذلك على عكس ما كان يمثله من شعارات
شيوعية!؟.
حتى أنه ذات يوم دخلت عليه أمه قصره المنيف؛
ولما رأت الثراء والبذخ الذي يعيشه ابنها، وكم السيارات النادرة!.
فقالت كلمة خلدها التاريخ: (يا بني؛
ماذا ستفعل إذا حضر الشيوعيون ورأوا ما أنت فيه؟!).
ثم ...
د. حمدي شعيب
(15 سبتمبر 2018م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق