اقتنص لحظات صحبتها!
دخل علي صديقي الشاب العشريني لمتابعة
ولده الصغير والجميل!.
وأسعدني أنه كان بصحبة صديقه الستيني
المخضرم؛ والذي عرفني به؛ وما شاء الله تبارك الله قد رزقه الله
مركزًا اجتماعيًا مرموقًا وهو والحمد لله ميسور الحال، وزاده ربه رزقًا طيبًا من
الذرية المميزة، ونحسبها على خير، والأجمل فوق هذا من الرزق المبارك أن من أروع
اهتماماته؛ هو الاهتمام بالجانب الأدبي والتربوي والعلاقات الأسرية.
وقد لاحظت تأثره الشديد عندما قلت
للوالد الشاب وأنا أنصحه أن يحاول الكف عن التدخين لأن ابنه يعاني من نوبات حساسية
الصدر المتكررة!.
ونصحته كوالد يحبه ويحب طفله المسكين؛
أن خبرتي الستينية علمتني أن في محنك وعند تقدمك في السن؛ سيكون أهم رصيد سينفعك؛ هي
كما أسميها الثلاثية الذهبية؛ وهي عملك الطيب وصحتك وزوجتك!.
وأذهلني أنني لاحطت هذا الصديق الستيني
ينظر إلي؛ وعيناه تدمعان، ويهز رأسه موافقًا بشدة!.
واستغربت أكثر أنه استأذنني في أن ينفرد
بي لدقائق بعد خروج الشاب بطفله؛ فوافقت على الفور!.
فقال لي سأهاتفك ليلا بعد انتهاء عملك؛
فبادرته متلهفًا بل سأمر أنا عليك لأجلس معك فكم افتقدت جلستك الطيبة!.
ومررت عليه؛ وخرجنا معًا!.
وتركته يفضفض لي تجربته المريرة
والرائعة في ذات الوقت؛ وكثيرًا ما توقف ليمسح دموعه!:
(منذ سنوات قد امتحنني الله؛
بمحنةٍ قاسية؛ بأن تغيبت ولأول مرة بعيدًا عن أسرتي الحبيبة!.
وقد خفف عني قسوتها؛ أنني قد رزقت بصحبة
طيبة اهتمت بي كثيرًا وبسني الكبير؛ فخففوا عني آلام المحنة، فجزاهم الله خير
الجزاء، وقد عجزت عن شكرهم وفضلهم، وأنه قد فتح الله لي أبواب للخير لنفع رفقتي من
محاضرات فكرية وخواطر دينية ولمسات تربوية خاصة في العلاقات الأسرية!.
حتى كانت هناك طرفة يتناقلها الشباب العزّاب في
بداية كل محاضرة؛ وهي رجاء أن ابتعد قليلا عن الحديث عن فن التعامل مع الزوجة!.
فكنت أوافقهم مازحًا؛ أنني لن أتكلم
اليوم عن الزوجة؛ بل موضوع بعيد تمامًا؛ وهو لمسات راقية في فن التعامل مع المرأة!؟.
وفي هذه التجربة اكتشفت حقيقة العلاقة
بيني وبين زوجتي الفاضلة ذات المركز الطيب وذات الأصل الطيب!.
وكل ليلة أستعيد شريط ذكرياتي معها!.
وأنا كل يوم أرى كم تتحمل وحدها وبمعاونة
أولادي الأحباب جبال ألم المحنة!.
وكم قاست كثيرًا صعوبة التوفيق بين
بيتها وعملها وزيارتي اليومية؛ التي كانوا يسمحون بها كحالات استثنائية خاصة؛ وهو
فضل من الله ولطف أقداره.
وكانوا مشكورين يعامونها معاملة طيبة؛
لأنها من واقع عملها ومركزها كانت تخدمهم، كما كان أغلبهم يعرفني من قبل من واقع
عملي؛ فكانوا يسارعون لها بمقعد لتجلس حتى يأتي وقت الزيارة!.
وكانوا يسمحون بالرسائل اليومية،
وبإدخال ما احتاجه من كتب وأوراق وأقلام لأسجل خواطر كل لحظة من لحظات المحنة!.
حتى أكملت ثلاثة كشاكيل؛ لم تسمح الظروف
لترى النور!.
وكان الشباب عند وقت قدوم الزيارة
يجهزون لي كرسياً لأطل من النافذة الضيقة عليها وهي تقف وسط الزائرين؛ لمعرفتهم
بقدر معزتي واحترامي لها!.
بل كانوا يحملونني على أكتافهم!.
وكم كانت لحظات قاسية أن يُسمح لك
بزيارة قصيرة أو مجرد سلام من خلف السياج!.
وكم كان ممتعاً مجرد رؤيتها؛ أو مجرد أن
أسلم عليها وأتسلم رسائلها بيديها!.
ولم استغرب كم كان الكثيرون يقبلون رأس
ويدي رفيقتهم؛ ولو من وراء القضبان!.
واتفقت معها أن تسمح للأولاد بممارسة
حياتهم العادية؛ وكأنني موجود بل وكأن الحياة العادية للبيت تسير كالمعتاد، ولا
نعيق أي منهم في دراسته، وعمله، وخطته لسفره؛ بل وتنزهاتهم مع رفقائهم!.
فالحياة وخطتنا لمسيرة أولادنا لا يجب
أن نسمح لأي عائق أن يوقفها؛ فلا ندري متى ستنتهي محنتنا!.
وكل يوم اكتشف جوانب عديدة في حياتي؛
خاصة في العلاقة الأسرية؛ كنت أبثها في محاضراتي وفي خواطري اليومية!.
فتكشف لك المحنة خيرات كثيرة ومميزات
كثيرة لم تكن لتراها إلا من خلال المحنة للأسف!.
ولعله جانب من جوانب الخير الكثيرة؛
الذي يريد ربنا أن يعلمنا إياها من خلال التجربة القاسية!.
فلأول مرة تكتشف هذا الكنز الداخلي؛ في شخصيتك،
وفي فكرك، وفي تعاملاتك، وفي أسلوب حياتك، ورؤيتك لمستقبلك؛ ما لم تراه من قبل!.
وتكتشف لأول مرة هذا الكنز والنعمة
الربانية التي بين يديك ولا تراها!.
فتكتشف في رفيقة دربك ما لم تراه من
قبل!.
تكتشف مدى حضورها في حياتك؛ عندما يغيب
الآخرون!.
وتكتشف مدى قربها؛ عندما يبتعد عنك
الآخرون!.
وتكتشف مدى صمودها؛ عندما يتقاعس
الآخرون!.
وتكتشف مدى جمال معدنها؛ عندما يصهره
ألم المحنة؛ فيفضح وضاعة معدن الآخرين!.
وتكتشف مدى أهمية أن تقرأ مشاعرها
الدامعة في رسائل بأناملها الطيبة؛ لم تتبادلونها منذ عقود، ومنذ أيام الخطبة!.
فتهتف يا الله لماذا لا يكتب الزوجان
لبعضهما البعض؛ ما يترجم المشاعر ولو برسالة، ولو بأغنية سمعاها معًا، ولو ببيت
شعر تفهمه هي قبل الآخرين، ولو بكلمة حب؛ خاصة أمام الآخرين؛ كما صرح الحبيب صلى
الله عليه وسلم في جمع من الصحابة رضوان الله عليهم؛ ردًّا على سائله؛ أن أحب
الناس إليه هي عائشة رضي الله عنها!.
وتكتشف أنك كلما تقدم بك العمر؛ تتحول
زوجتك إلى كل شيء في حياتك!.
فلا تستغرب سرعة رحيل الزوج أو الزوجة؛
عند رحيل أحدهما!.
بل تكتشف معنى السكن الذي حباك الله به
معها!.
وتكتشف معنى المودة التي غاب عنك معناها
في زحام الحياة!.
وتكتشف أنك في ستينيتك وما بعدها؛ تجد فيها
معنى حنان قلب الأم قبل حنان قلب الزوجة المحبة!.
ثم تكتشف أن هذه الأصيلة الطيبة لم
تخذلك يومًا، ولم تؤلمك يومًا، ولم تخالفك عمدًا يوما، ولم تسيء إليك يومًا، ولم
...!.
فكم سرتك عندما نظرت إليها!.
وكم حفظتك عندما غبت عنها؛ حتى ولو في
عملك!.
وكم قصرت مع أولادك؛ فسددتك!.
وكم أخطأ أولادك؛ حتى وهم لا يعون مدى
خطأهم؛ فتسرع هي إليهم دون أن تدري ومن ورائك؛ فتحثهم على ألا أبيت وأنا غضبان من
أحدهم!.
فكم حفظت احترامي كزوج، وهيبتي كأب،
وشعوري كوالد، وقدسيتي كرب أسرة!.
وكم قصرت معها فلم تشكو!.
وكم حفظت سري بين جدران بيتي!.
حتى ظن الآخرون أننا بلا مشاكل!؟.
فهي سبب كل خير حصلت عليه.
وهي من ربت أولادي كما أحب ويحب الله
سبحانه!.
وكم انشغلت عنها في عملي فتحملت؛ حتى
أنها حزنت لأنني ذات يوم نهرتها شفقًا عليها؛ لأنها لم تذوق طعاما طوال اليوم في
انتظاري وحدها عندما تأخرت في عملي!.
كل هذا وأكثر اكتشفته؛ واكتشفت كم كنت
أعمى عن سمات جميلة لم أستشعرها من قبل!.
فهل كنت في حاجة لمحنة مريرة لأتذوق طيب
طعم عشرتها الطيبة؟!.
يا الله ...
كيف ساعتذر إليها بعد هذا العمر وأوفيها
حقها؟!.
فنويت أن أطلب منها مجددًا كما طلبت قبل
الزواج؛ أن تذكرني ماذا تحب مني؟!.
وماذا تكره مني؟!.
وماذا تتمنى مني؟!.
وقررت ...
أن أخفف من ساعات عملي لأكون معها!.
وأن نحافظ معًا على أجمل هدية من ربنا؛
وهي أن نكون كالعهد بنا من المستغفرين بالأسحار، ومن الذاكرين الله والذاكرات!.
وأن نحافظ على كنزنا ورصيدنا؛ لعله
يجمعنا به معًا في جنته؛ وهي ركعتي السحر معًا!.
وأن نحافظ على عادتنا الطيبة التي
نمارسها منذ عقود؛ وهو أن نقضي معًا نزهة أسبوعية وحدنا، وأن نفضفض معًا وحدنا،
وأن نسمع معًا ما يروق لنا وحدنا؛ وبعيدا عن البيت بل وبعيداً عن الأولاد وحدنا!.
والأهم من كل هذا أن أقدرها إذا بخس
حقها الآخرون!.
وأن احترم من يحترمها!.
وأن أقدر من يقدرها!.
فتقديرها من تقديري!.
وهي مقياس تعاملي مع الآخرين!.
إن أحسنوا إليها أحسنت إليهم!.
فالعمر لا ينتظر ...
ولا ندري ماذا يخبئ القدر في غدنا؟!.
ولِمَ لا نستمتع بالحياة الدنيا الطيبة؛
التي تنتظر من يعيشها قبل الحياة الطيبة في الآخرة:
"مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ". (النحل97)
والأولاد ينتظرون فتح رصيدهم الذي
خبأناه تحت الجدار؛ والذي أقمناه معاً؛ عندما نتمسك بتنمية رصيدنا وكنزنا الطيب؛
لعلنا نكون ممن شملهم هذا الرزق الطيب المبارك؛ فيتذكرون مآثرنا الطيبة:
"وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً".
(الكهف82)
كل هذه المشاعر ترجمتها في خواطر مكتوبة
من واقع رسائل رفيقتي الطيبة اليومية!.
ومن واقع ما نقلته إلى محاضرات لصحبة
المحنة!.
والحمد لله وجدت الثمرة فيمن حولي!.
وذلك كما سمعته في حفلة السمر بمناسبة
سعادتنا بليلة الفرج؛ فسألت كل منهم:
ماذا ستصنع عندما تعود إلى بيتك؟!.
فأجمع الكل على ...
سجدة الشكر!.
ثم تقبيل رأس الزوجة ويديها!.
بل لم نستغرب أن قال أحد الأحباب:
بل سأنزل وأقبل قدمها أمام إخوتي)!!!!.
وهنا بكى صديقي ومحدثي كثيراً، وأبكاني كثيراً!.
وكان لقاءًا جميلا لم أتذوق جمالا
مشاعريا وإنسانيا مثله من قبل!.
وهتفت في داخلي هتافا جميلا هزني من
الأعماق، وكأنه عهدًا بيني وبين ربي؛ إلى كل زوج:
(اقتنص لحظات صحبتها!).
(د. حمدي شعيب ـ الأثنين 23 ديسمبر
2019)
(عندما يُخجلنا الكلب!)
عندما نفتقد فيمن حولنا من البشر خلق الوفاء!.
وعندما نعاني من غياب المروءة!.
خاصة فيمن أحسنّا إليهم يومًا!.
يؤلمنا سلوك كلب مكلوم على خلِّه!.
وعندما نعاني من غياب المروءة!.
خاصة فيمن أحسنّا إليهم يومًا!.
يؤلمنا سلوك كلب مكلوم على خلِّه!.
ويُخحلنا انشغاله بها عمن حوله!.
فلم يأبه لخطر زحام الطريق من السيارات!.
وآلمه فقد رفيقته!.
فظل بجوارها!.
وأطلق آهات نازفة لا يستشعرها إلا من جرب غياب الوفاء والمروءة من بني الإنسان!.
وكأنه يناديها: لِمَ ولمن تركتيني؟!.
فتستشعر بكاءه ونهنهته!.
فلعلنا نتعلم ما نسيناه ونجد افتقدناه!.
ثم ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق