الخميس، 20 فبراير 2020

التي أساءت أدب الدعاء فتمنت البلاء!

(التي أساءت أدب الدعاء وتمنت البلاء!)
ذات يوم دخلت عليّ أم منتقبة أعرفها منذ زمن.
ولكن هذه المرة وجدتها حريصة على إخفاء طفلتها عن المرضى وذويهم!?.
وبعد الاستماع إليها وتهنئتها بالمولودة الجديدة وجدتها متأثرة وهي تضع ابنتها على سرير الكشف!?.
وعند الفحص رأتني اجتهد في ضبط مشاعر الصدمة والتأثر!?.
فعاجلتني بكلماتها الباكية: (نعم يا دكتور لقد اشتقت كثيراً للإنجاب بعد طفلتي الأولى حتى مرت سنوات.
وراجعت الكثير من أطباء النساء وكنت كل مرة اتقطع شوقاً للإنجاب وأتحرق ألماً على استشعاري رغبة زوجي الطيب. وأسفاً على تعليقات أمة الجارحة ورسائلها المدببة الشائكة!. ويأساً من عدم جدوى زياراتي للأطباء!.
حتى كانت الليلة الموعودة والتي ينتظرها كل عبد من ربه وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان فدعوت ودعوت!.
حتى قلت: يارب ارزقني ولو بطفلٍ معوّق!!!?).
فألجمتني اعترافاتها النازفة، ودعوتها الغريبة الصادمة!.
وتماسكتُ حتى أكون رفيقاً بها من أي تعبير على وجهي أو حركة أو كلمة تُعمّق جراحها!.
وقلت وكأنني أحدث نفسي وأذكّرها قبل أن أذكّر محدثتي: (أختي الفاضلة؛ اسمحي لي أن أصارحك بمشكلة تربوية خطيرة فينا خاصة الملتزمين منا وليس العوام؛ إنها عدم فهم فن أو أدب العلاقة مع مولانا سبحانه!؟.
خاصة عندما نطلب منه حاجة؛ وهو جانب خطير أننا نمارسه كفقراء إليه في كل لحظة من حياتنا!.
وسأذكر نفسي وأذكرك من واقع خبرتي الستينية؛ فلعلها فرصة ساقها ربي إليّ لأراجع نفسي أنا شخصياً ولأسألها مفضفضاً: لماذا أسيء أدبي مع مولاي!.
لماذا دوماً لا نرفع سقف طلباتنا من الغني الكريم؟!.
ولماذا نتحرج ونقلل من قائمة دعواتنا؛ فنخفض سقف توقعاتنا؛ مخالفين وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!: "فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ" (البخاري)
وكما ذكرنا يوماً د. عبد الرحمن العشماوي في أروع تغريداته: لماذا لا نطلب المستحيل؟!.
فالغني لم يخيب راجياً، ولم يرد سائلاً، ولم يخذل مقبلاً، ولم يغلق باباً: ”إِذَا تَمَنَّىَ أَحَدُكُم فَلْيُكْثِر؛ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ“ (السلسلة الصحيحة)
ولماذا ننسى أن مولانا سيعطينا ما نظنه به ومانتوقعه؟!: ”فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ“ (الصافات87)
لماذا لا نستبشر ونطمئن؛ أنه لن يستثنينا من عطائه؛ فقد: ”كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ“ (الأنعام54)
فكم من سائل ألح فلما استيأس استجاب له!.
وكم من عاصٍ ستره ولم يفضحه!.
وكم من ظالمٍ لم يهلكه لعله يثوب فيرحم ظالميه ويرد المظالم!.
وكم من مريضٍ آيس من مرضه فشفاه!.
وهل أغلق بابه يوماً؟.
فهو ينفق كيف ومتى ولمن شاء سبحانه دون حجر: ”بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ“ (المائدة64)
ولماذا نسيء معه الأدب فنحدد طلباً بعينه وبقدر معين؟!.
كما حذرنا ابن عطاء الله رحمه الله في حِكَمِه: "طَلَبُكَ مِنْهُ اتَهَامٌ لَهُ"!.
بل لا ينبغي أن نطلب عقاباً خاصاً لظالمينا؛ فإذا حددنا أن تُشلّ يده؛ فقد يكون مولانا قد استدرجه لعقاب أقسى يليق به؛ فيشل أطرافه الأربعة أو يزيد!؟.
ولماذا نيأس ونستبطئ إجابة حوائجنا؟!: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ" (البخاري ومسلم)
ولماذا ننسى أن فرجه يأتي عند لحظة عجزنا وانقطاع الأسباب الأرضية وتهاوي أسنادنا وخذلاننا من أقرب أصحابنا؟!: ”وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ“ (التوبة118)
فلماذا نسيء دوماً أدبنا مع مولانا وسيدنا؟!.
وكم أحزن عندما أسمع أماً هلوعة وهي تقول أمامي: (ليت مرض أبني أصابني أنا).
فأراجعها فوراً: (كيف يا أختاه؟!.
هل من صفاته سبحانه والعياذ بالله البَدَل، أو الاشتراط في العطاء، أو اختيار البلاء؟.
بل اطمعي في رزق مولاك الغني صاحب الخزائن واطلبي العافية لك وله ولنا ولكل مبتلى)!؟.
"وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ (الحجر21)
وبعد أن هدأت نفسي قليلاً؛ رأيتها صامتة وكأنها تعالج دموعها من وراء نقابها، وهي تراني أنظر بعيداً وإلى السقف كمن يحدث نفسه ويفضفض لها ويراجعها لعلها تفيق وترعوي!؟.
ثم ختمت بهذين المثلين الذين يلخصان سوء أدبنا مع ربنا:
(لقد ذكرتينني بحالتين غريبتين غير سويتين:
الحالة الأولى: حالة الإعرابي وحلمه القاصر والمتواضع؛ بل والدنيء!؟.
وهي التي تأباها النفوس التوّاقة الطموحة الطامعة في رحمة ربها وخزائنه!
حيث روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه.
فقال له: يا أعرابي سَلْ حاجَتك.
قال: يا رسول الله ناقة بِرَحْلِها وأَعَنْزٌ يحلبُها أهلي، قالها مرتين.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعَجَزْتَ أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟!!!.
فقال أصحابُه: وما عجوز بني إسرائيل؟!.
قال: إن موسى أراد أن يسير ببني إسرائيل فأَضلَّ عن الطريق.
فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نُحدثُكَ أن يوسفَ أخذ علينا مواثيق الله أن لا نخرجَ من مصرَ حتى ننقل عظامه معنا.
قال: وأيكم يدري أين قبرَ يوسفَ؟.
قالوا: ما تدري أين قبرَ يوسفَ إلا عجوز بني إسرائيل!.
فأرسلَ إليها.
فقال: دَلِّيني على قبرَ يوسفَ.
فقالت: لا والله لا أفعل حتى أكون معك في الجنة.
قال: وَكَرِهَ رسول الله ما قالت.
فقيل له: أَعْطِها حُكْمَهَا. فأعطاها حُكْمَهَا. فأتت بُحَيْرة.
فقالت: انضُبُوا هذا الماء.
فلما نضبوهُ.
قالت: احْفِروا ههنا.
فلما حَفَروا، إذا عظام يوسفَ، فلما أَقَلُّوها  من الأرض، فإذا الطريق مثل ضوءِ النهار". (رواه الحاكم بإسناد صحيح)
فلقد جاءته الفرصة ليطلب المستحيل؛ ولو كان الفردوس الأعلى!.
ولكنه للأسف نزل بطموحاته؛ ليحلم بمجرد ناقة عليها زاد متواضع، وعنزة يعيش على لبنها!!!؟.
لدرجة أن الحبيب صلى الله عليه وسلم أعادها مرتين؛ لعله يفيق ولا يركل النعمة!؟.
فأضاع الفرصة الذهبية التي قد لا تأتي لأحد!.
حتى وإن أتت؛ لا تأتي إلا مرة واحدة!.
وعجز على أن يمتلك طموح وحلم عجوز بني إسرائيل!!؟.
أما الحالة الثانية: فهي حالة عاشقي البلاء والعياذ بالله!.
وهي حالة غريبة لا تقبلها الفطرة!.
عندما يرفض البعض طلب العافية من ربه!.
ويتعامون عن الدعاء الرائع الذي لا أنساه ليل نهار وأكرره دومًا!.
كما جاء عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: سَلِ اللهَ الْعَافِيَةَ.
فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ.
فَقَالَ لِي: يَا عَبَّاسُ؛ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ“. (الترمذي وصححه الألباني)
فاللهم إنا نسألك العافية!.
أما أبرز مثال لهذه الحالة الشاذة إنسانيًا؛ فهم الذين سألوا الله البلاء والشقاء والعياذ بالله.
فقد صورهم القرآن الكريم؛ بكلمات مرعبة تزلزل من يسيء أدب الطلب والرجاء من صاحب الخزائن الغني: "وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ". (الأنفال32)
وهو دعاء شاذ طلبه معارضو الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فبدلا من سؤال الله الهداية والرحمة والعافية وحسن الخاتمة؛ عاندوا عنادًا لا يصنعه حتى الدواب كما وصفهم القرآن الكريم!.
واستمطروا صاعقة من السماء تدمرهم أو عذاب وشقاء وسوء خاتمه!!؟.
وللأسف نالوا ما طلبوا!.
واستجيب لهم!.
وتحقق ما توقعوا والعياذ بالله!).
بقي أن نعرف أن ربنا سبحانه قد استجاب لدعوتها الغريبة؛ حيث تمنت البلاء وطلبت الشقاء والعياذ بالله!.
فقد رزقت؛ وكما طلبت وكما ظنت به وكما توقعت؛ ببنت تعاني من مجموعة من التشوهات الخلقية: 
(Multiple Congenital Anomalies)
وكان أكثرها ألماً أن ساقيها مرفوعتان إلى الأعلى؛ حتى أصبحت القدمان بمحاذاة رأسها!؟.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.
اللهم إنا نسألك العافية.
(9 يوليو 2017م)
(مع الشكر الجزيل للأخ الحبيب أ. محمد الشرمة)




ثم ...
د. حمدي شعيب
(20 فبراير 2020م)

ليست هناك تعليقات: