الخميس، 25 يوليو 2019

(1) حوار ومدارسة تربوية مع الحج

 قال لي الحج: إن محور الخير الذي تدور حوله هدايايا وبشراي إليكم؛ هو:
كيف تعايشون موسم الحج روحياً؟. 

وكيف تحيونه تربوياً؟.
وما هي المهارات أو المحفزات التي تجعلكم تدخلون سوق الحج بإيجابية فتربحون وتسعدون؟.
ذلك حتى ولو لم تشرفونا بحضور الموسم القدسي السنوي.
 

من فضلك افتح موقع (إسلاميات).

لحظات قدسية نورانية علوية عشتها بينما كنت جالساً في لحظات السحر، وكلي سعادة بأن الحق سبحانه الودود الغفور الحنان المنان؛ قد أكرمني بشرف هذا اللقاء القدسي العلوي وقت نزوله سبحانه؛ كما بشرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا. فيقول: هل من سائل يعطي؟. هل من داع يستجاب له؟. هل من مستغفر يغفر له؟. حتى ينفجر الصبح". [رواه مسلم]

وبينما كنت سابحاً في مناجاتي: اللهم اجعلنا من المستغفرين بالأسحار، واللهم اجعلنا من الذاكرين الله والذاكرات؛ هاجت في نفسي ذكرى طيبة زادت من قوة الطاقة الروحية داخلي؛ فلقد تاقت نفسي للبيت الحرام وزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

فهكذا كل عام؛ كلما مرت علينا نسائم الأشهر الحرم؛ فإن أرواحنا تحن شوقاً إلى البيت الحرام وساكنيه وزائريه ومؤسسيه؛ وذلك استجابه من الله سبحانه لدعاء الخليل عليه السلام: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". [إبراهيم37]

إنها المناجاة الإبراهيمية الخاشعة؛ التي أصابت هدفها؛ فاستجاب الله سبحانه لكلمات خليله؛ والتي أبدع فيها عندما ناداه: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ ليس فيه زرع ولا ماء بجوار بيتك المحرم, ربنا إنني فعلت ذلك بأمرك; لكي يؤدوا الصلاة بحدودها, فاجعل قلوب بعض خلقك تَنزع إليهم وتحنُّ, وارزقهم في هذا المكان من أنواع الثمار; لكي يشكروا لك على عظيم نعمك.
اكتمل المهرجان القدسي الذي عشته؛ فأهداني ربي حبيبي وخالقي هدية طيبة؛ وهي زيارة طيب في وقت طيب وفي حالة روحانية طيبة؛ عندما سمعته يهمس إليَّ: هل اشتقتم إليَّ أيها الأحباب؟.
فقلت وقد تملكتني حالة سكينة لا توصف: مرحباً؛ ولكن قل لي بربك من أنت أيها الطيب؟.
قال وهو يشد على يدي: أنا الذي هوت قلوبكم المؤمنة لحضور عرسه السنوي؛ أنا الحج!.
هدايا ... ومبشرى:
فهتفت به: مرحباً يا صاحب الخيرات؛ فلقد ذابت أرواحنا وهوت قلوبنا شوقاً إليكم؛ فمن منا لا يتمنى أن ينال شرف حضور عرسكم القدسي؟.
قال الحج: وأنا كزائر جئت إليكم لأدعوكم وأحثكم وأحفزكم؛ فقد كلفني ربي أن أهديكم هذه الهدايا التي حملتها إليكم لأزيدكم شوقاً وتحناناً للحضور.
قلت وكلي لهفة: هيا افتح لنا جعبة خيراتكم وهداياكم!.
قال الحج: إن محور الخير الذي تدور حوله هدايايا وبشراي إليكم؛ هو كيف تعايشون موسم الحج روحياً؟. وكيف تحيونه تربوياً؟.
وما هي المهارات أو المحفزات التي تجعلكم تدخلون سوق الحج بإيجابية فتربحون وتسعدون؟.
كن ... شيئاً مذكوراً:
قلت: هذا مدخل طيب وباب رائع ونحن في شوق لكل ما يشعل في نفوسنا الشوق!؟.
قال: لقد أسعدني كثيراً عند حضوري أنني سمعتكم ترددون تلك المناجاة الإبراهيمية المباركة؛ فلقد أسعدني أن تكونوا ممن هوت أفئدتهم؛ الذين قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمَْ". [إبراهيم37] (لو قال أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم).
فاسجدوا لربكم شكراً أن جعلكم ضمن هذا البعض المبارك والمختار من البشر؛ الذين رزقهم ربهم سبحانه هذا الشوق الروحي واختصهم بهذا الهوى القلبي للتشرف بحضور عرسي السنوي المبارك.
وتلكم هي هديتي أو بشراي الأولى إلي أحبابي.
أو المهارة الأولى التي تحفزكم؛ فتجعلكم تستشعرون الحلاوة الإيمانية للحج ولمشاعره؛ وهو أن تستشعروا تميزكم وعظم قيمتكم عند ربكم، وأن هوى قلوبكم للبيت الحرام قد جعل كلا منكم شيئاً مذكوراً.
امتلك النفس التوَّاقة:
سرتني تلك البشرى، واستشعرت بقدري وقيمتي عند ربي؛ وقلت: لا أريد أن أقطاعكم ولكن ما ينطقني؛ هو شوقي لسماعكم، ولمعرفة ما في جعبة خيراتكم لنا.
قال الحج: والآن سأدلكم على المهارة أو المحفز الثاني.
فعندما نستشعر مغزى رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرض لهُ". [رواه أحمد]
إنها الدعوة الكريمة من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة، والتعجل في قضاء هذا الركن العظيم، عند الإستطاعة.
وهي دعوة عامة تحفز المسلم إلى المسارعة في الخيرات، دون تراخ: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ". [آل عمران133]
و"فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ". [البقرة 148 والمائدة48]
و"بادروا إلى الأعمال سبعاً. هل تنتظرون إلا فقراً مُنسياً، أو غنىً مُطغياً، أو مرضاً مُفسداً، أو هَرَماً مُفنداً، أو موتأً مُجهزاً، أو الدجال فَشَرُ غائبٍ يُنتظر، أوِ الساعةَ فالساعةُ أَدهى وأَمَرُ". [رواه الترمذي وقال: حديث حسن]
ولا تنسوا أن امتلاك هذه النفس التوَّاقة، واكتساب مهارة الروح السباقة إلى فعل الخيرات؛ لها ثمرتين:
الثمرة الأولى: أنها أحد موازين التقييم للعباد وتقديرهم عند ربنا سبحانه.
الثمرة الثانية: أنها من أسباب المسارعة في استجابة الدعاء؛، فالجزاء من جنس العمل.
وهذا ما انطبق على ما حصدته أسرة زكريا عليهم السلام: "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ". [الأنبياء89و90]
لقد دعا عبد الله زكريا ربه أن يرزقه الذرية لما كَبِرت سنُّه قائلا رب لا تتركني وحيدًا لا عقب لي, هب لي وارثًا يقوم بأمر الدين في الناس من بعدي, وأنت خير الباقين وخير مَن خلفني بخير.
فاستجبنا له دعاءه ووهبنا له على الكبر ابنه يحيى, وجعلنا زوجته صالحة في أخلاقها وصالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عاقرًا؛ لأنهم كانوا يبادرون إلى كل خير, ويدعوننا راغبين فيما عندنا, خائفين من عقوبتنا, وكانوا لنا خاضعين متواضعين.
لذا فإن من الرسائل التربوية للحج؛ هي نهتم ببث روح المبادرة والتنافس، وأن نكون من الإيجابيين السباقين التواقين للمعالي.
لا تفقدوا ذاكرتكم:
صمت محدثي قليلاً؛ ثم بادر: أما المحفز الثالث لمعايشة الحج تربوياً؛ هو أن تجيدوا مهارة قراءة التاريخ.
وتأملوا لماذا فتح ربكم هذه الصفحة من ملف العائلة الإبراهيمية المباركة: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". [إبراهيم37]
فمن خلال هذه اللمحة التاريخية، يتذكر المسلم تاريخ تلك العائلة المباركة، ويسمع الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يتجه إلى ربه معلناً أنه قد أسكن بعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها؛ وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق سبحانه، أن يرقق قلوب البشر ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق أهل المكان، الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.
وهو محفز نفسي رائع، يوضح أهمية أن يستشعر المسلم مدى عمق جذوره، وبعده التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلواته الخمس، ويؤكد على هذه الصلة القوية، بين حلقات الدعوة: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم. وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد". [رواه مسلم وأحمد]
ويفخر بأنه حلقة في سلسلة الخير، وذلك عندما يطلع على ما ورد في معنى "آل محمد"؛ حيث (قيل: هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني عبد المطلب، وقيل: هم ذريته وأزواجه، وقيل: هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، وقيل: هم المتقون من أمته). [فقه السنة: سيد سابق]
كل هذا يدعو المسلم؛ أن يحافظ على هذا الإرث العظيم، وتواصله الحضاري.
ويفخر بهذا الذكر الجليل، والبركة التي تغمره بهذا الدعاء الطيب الذي يتردد على ألسنة أكثر من مليار مسلم كل صلاة.
كل هذه القضايا لا يمكن استشعارها دون الإطلاع على تاريخ هذه الدعوة المباركة الخالدة.
وأكرم بالتاريخ من واعظ!.
فالتاريخ ـ كما يسميه العلامة د. القرضاوي حفظه الله ـ هو مخزن العبر، ومعلم الأمم، وهو ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، من أهمله أشبه بمن يفقد ذاكرته.
أسعدتني كلمات محدثي وأومأت برأسي مشجعاً أن يواصل حديثه التربوي العذب؛ وكأنني أستحثه على الاسترسال في سرد بقية المهارات والمحفزات؛ ففهم رسالتي، وقال: أما المهارة الرابعة فلها حديث آخر بعونه تعالى.
  ثم ...
 

ليست هناك تعليقات: