فهي تمثل قمة النضج في حياة الإنسان
عندما يصل إلى مرحلة الترتيب الصحيح لأولوياته، فتصبح الفكرة مقدمة على أي أمور أو
مصالح أو ارتباطات أخرى في حياته.
فإذا كان الطفل يمر بمراحل اجتماعية
نفسية ثلاثة هي: مرحلة التمحور حول الأشياء، ثم مرحلة التمحور حول الأشخاص، ثم
مرحلة التمحور حول الأفكار. وكذلك المجتمعات، تمر بنفس المراحل في تطورها الحضاري.
[مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: مالك بن نبي]
فنحن نؤكد أن ذلك واقع أيضاً في حياة كل
مسلم وكل صاحب قضية، وإن تطوره التربوي، يمر بنفس المراحل، حيث يبلغ قمة النضج،
عندما يصبح تمحوره حول الفكرة التي يؤمن بها، والمبدأ الذي يحمله، ويتعدى مرحلة
التأثر والتمحور حول الوسائل والأشياء والماديات، ومرحلة التمحور حول الأشخاص.
وهي نفس التضحية؛ ونفس النقلة التي مر
بها الغلام؛ كما جاء في قصة (الغلام والراهب). [رواه مسلم والترمذي]
فلقد انتصر بفكرته ومبادئه؛ حين قبل أن
يموت على يد الساحر؛ بشرط أن يشهد موته كل الناس والعوام؛ فأشعل بموته شرارة إيمان
كل هذه الجماهير بفكرته.
وهي نفس النقلة التي أراد سبحانه أن
يعلمها ويرسخها في خير الأجيال، حينما أصابهم الخور عندما سرت أشاعة مقتله صلى
الله عليه وسلم أثناء محنة أحد؛ فكان العتاب والمراجعة القاسية؛ وذلك حتى يرتبطوا
بالفكرة لا الشخص ولو كان خير من وطئ الحصى صلى الله عليه وسلم: "وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ
قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن
يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ". [آل عمران
144]
أي وما محمد إلا رسول من جنس الرسل
الذين قبله يبلغ رسالة ربه. أفإن مات بانقضاء أجله أو قُتِل كما أشاعه الأعداء
رجعتم عن دينكم,, تركتم ما جاءكم به نبيكم؟ ومن يرجِعُ منكم عن دينه فلن يضر الله
شيئًا, إنما يضر نفسه ضررًا عظيمًا. أما مَن ثبت على الإيمان وشكر ربه على نعمة
الإسلام, فإن الله يجزيه أحسن الجزاء.
وتدبر أيضاً سنة الله عز وجل في هذا
القانون الشاق؛ (قانون الخروج)، أو المرحلة التي لابد منها، في طريق أصحاب
الدعوات، والذي لفت إليه نظر الحبيب صلى الله عليه وسلم عن طريق ورقة بن نوفل، في
أول خطواته الدعوية؛ عندما (قال: يا ليتني فيها جذعاً ـ أي شاباً جلداً ـ إذا
يُخرجك قومك من بلادك!. قال: أو مخرجي هم؟!. قال: لم يأت رجل قط بمثل ما
جئت به إلا عودي). [نور اليقين: الخضري]
وهو نفس القانون الذي طبق في قصة يوسف
عليه السلام وما تمثله من نموذج للخروج والإبتلاء قبل التمكين، ومغزى نزولها في
الفترة الحرجة من عمر الدعوة بين عام الحزن، وبين بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية،
التي جُعِل فيهما الفرج والمخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللعصبة المؤمنة
معه وللدعوة الإسلامية، بالخروج والهجرة إلى المدينة.
وهي الرسالة التربوية الرابعة؛ التي
أريد أن تصلكم فترقى بكم في هذه الأيام المباركة؛ وهي (اكسر صومعتك ... واصعد قمتك).
وهي التي أقصد بها أن على المسلم؛ ـ
خاصة أصحاب المبادئ ـ أن يعيد ترتيب أولوياته، ويدرك أن قمة النضج الإنساني، لا
تكون إلا بالتطور والخروج؛ بمعناه العام الراحب؛ وهو الخروج من أسر الوسائل
والأشياء والماديات، وبكسر صومعة التأثر بالشخصيات، إلى التمحور حول الفكرة التي
يؤمن بها، والمبدأ الذي يحمله.
5-أعقلها ... وتوكل:
أذهلتني تلك الرسالة الرائعة؛ التي
جعلتني أعيد ترتيب علاقاتي ومسيرتي في الحياة؛ فتعجلت محدثي ومعلمي الكريم، وعلقت
بانبهار: كم هو عظيم أبانا الخليل عليه السلام!؟.
وكم هي عظيمة تلك الأسرة الربانية!؟.
فابتسم الحج من دهشتي وانبهاري ولهفتي
على قراءة المزيد من صفحات ملفها الثري؛ وقال: لا تتعجل، لأنني رتبت لكم قراءة
الملف صفحة صفحة؛ وبترتيب السياق.
وما سيزيدكم إعجاباً؛ ويزيد قلوبكم هوىً
للبيت الحرام؛ هو ما حدث من سلوك الخليل عليه السلام في تربية وإعداد وتهيئة أفراد
أسرته ليقوموا بدورهم الرباني في تغيير التاريخ البشري؛ ومن أبرز ما صنعه؛ هو عندما
صدع عليه السلام بأمر ربه، وترك هاجر ووحيدها، ومضى، بعد أن وضع عندهما جراباً ـ
وهو الوعاء الذي يُحفظ فيه الزاد ونحوه، ـ فيه تمر، وسِقَاءً ـ وهو القربة
الصغيرة،ـ فيها ماء، فكانت هاجر تأكل التمر، وتشرب الماء، وترضع وليدها.
وهذا السلوك العظيم في حياة الأنبياء ورواد
الإصلاح على مر التاريخ، يوضح أن خلق التوكل على الله عز وجل لا ينفي مبدأ الأخذ
بالأسباب.
وتدبر خطة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وهو المعصوم، حينما هاجر من المدينة، وكيف أخذ كل الأسباب، وكذلك كان ديدنه ـ صلى
الله عليه وسلم ـ في كل غزواته، بل وفي كل أموره.
وضوابط التوكل عليه سبحانه، وأهمها
الأخذ بالأسباب، وردت في أكثر من وصية عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما: "جاء
رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يارسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها
وأتوكل؟. قال: أعقلها وتوكل". [رواه الترمذي عن أنس وسنده حسن]
فكانت رسالة تربوية رائعة؛ تحفز المسلم
على معايشة روح الحج؛ فيدرك أهمية وجود التوازن في حركته، بين جناحي الحركة
الإيجابية، وهما الأخذ بالأسباب الشرعية، ثم التوكل عليه سبحانه.
وهو
أمر يجب أن نغرسه دوماً في نفوسنا ونفوس أبنائنا؛ وهو أهمية دور (سنة الجهد البشري) في تحقيق آمالنا وبلوغ أهدافنا.
وهي
سنة إلهية اجتماعية، وقاعدة قرآنية وقانون رباني عام ينطبق في كل زمان ومكان؛ وهو
إذا أردت تحقيق هدفاً أو بلوغ غاية؛ فإن عليك أن تبذل قصارى جهدك؛ فتأخذ بكل
الأسباب الأرضية المشروعة، ثم تدعو ربك ليكلل جهدك بتوفيقه وعونه وتسديده؛ تماماً
كما صنع الحبيب صلى الله عليه وسلم في هجرته وفي غزواته خاصة بدر؛ وهو ما يحقق
القاعدة القرآنية: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". [الفاتحة5]
و"وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ". [العنكبوت69]
6-اهتدي بالمنارة:
لم يمهلني ضيفي الكريم أن أعلق؛ فاسترسل
في حديثه العذب: وعندما تتأملون كيف مضى الخليل ـ عليه السلام ـ قافلاً إلى الشام
بعد أن ترك هاجر ووليدها، (فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا
بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟. فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها!!،
فقالت: آلله الذي أمرك بهذا؟.
قال: نعم.
قالت: إذاً لا يُضيعنا، ثم رجعت). [رواه
البخاري]
فتدبر هذا الموقف العصيب، وتلك التجربة
المريرة، في حياة تلك الأسرة المؤمنة المباركة، وتدبر هذه الزوجة البارة الصالحة
الممتحنة، وهي تتعقب زوجها، وتصف له الوادي. وتدبر مغزى هذا الوصف لحالها (فقالت
ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها!!).
ولعل وصف الحديث لعظمة هذا الموقف، ليس
فقط في استجابة وامتثال الخليل ـ عليه السلام ـ لوحيه سبحانه، بل في بلوغه هذه
القمة الشامخة في الثبات على الحق، رغم رجاء زوجته، مراراً.
حقاً "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ
أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". [النحل
120]
أي كان إمامًا في الخير, وكان طائعا
خاضعًا لله, لا يميل عن دين الإسلام موحِّدًا لله غير مشرك به.
والثبات على الحق، زاد يرثه العاملون،
من سيرة الأنبياء والدعاة، على طريق الدعوة، ذلك الطريق الذي يقف على قمته الحبيب
ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكيف تجسد الثبات في الكثير من مواقفه ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وكذلك في مواقف من سار على دربه منذ جيل الخيرية الأول، حتى عصرنا هذا،
ويكفينا في هذا المقام مثال واحد قريب، لأولئك الشموس، كما في سيرة (صاحب الظلال)
ـ رحمه الله ـ ومواقفه مع الطغاة، وثباته على ما دعا إليه لأعظم زاد، وأعظم طاقة
حولت الكلمات من أن تكون مجرد عرائس شمعية، يضمها متاحف التاريخ، إلى حياة وروح
وشعلة، يعيش على نورها اللاحقون.
وهو الأرث العظيم الذي يفخر به الأبناء
السائرين على طريق الآباء والأجداد الهادين المهتدين، أولئك الرجال الصادقين
الثابتين، الذين لم يبدلوا: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً". [الأحزاب 23]
من المؤمنين رجال أوفوا بعهودهم مع الله
تعالى, وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس؛ فمنهم من وَفَّى بنذره؛ فاستشهد في
سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء, ومنهم مَن ينتظر إحدى الحسنيين؛ النصر أو
الشهادة, وما غيَّروا عهد الله, ولا نقضوه ولا بدَّلوه, كما غيَّر المنافقون.
وتلك هي الرسالة التحفيزية التربوية
التي نعايشها مع سيرة الخليل عليه السلام؛ وهو الثبات على المبدأ.
لأنه المنارة التي لا تنطفئ؛ تلك
المنارة التي يشعلها السابقون للاحقين على الطريق.