الخميس، 21 يونيو 2018

عندما خررتُ ساجداً!؟


 عندما خررت ساجداً!
دخلت العيادة تعلو وجهها ابتسامة هادئة؛ وهي تحمل طفلة رقيقة هزيلة تبلغ حوالي العام.
وبصحبتها زوجها في حوالي منتصف العقد الرابع.
وكانت شكوى الطفلة هي نوبات سعال شديد والتي امتدت لأيام والتي تتكرر كل أسبوع او أسبوعين!.
وعندما بدأت أناقشها في التاريخ المرضي للطفلة والأسرة؛ كانت تتكلم ببساطة عجيبة وأنا مع كل كلمة أغوص في داخلي؛ مذهولاً من هذه ـ وبلا مبالغة ـ الكتلة من الابتلاءات والمعجونة بالرضا والتسليم؛ ولا أجد من كلماتي ما يسعفني إلا أن أردد في سري؛ لا حول ولا قوة إلا بالله، واتمتم لها بالدعوات بالعافية؛ لي ولأولادي ولكل من أحببته وأحبني في الله!؟.
فعندما سألتها عن طفلتها عرفت أنها ولدت مبتسرة ودخلت (الحضانة) لحوالي الشهر والنصف بسبب ضيق التنفس ونقص الوزن!.
فتخيلت مقدار معاناة الطفلة ومقدار التكاليف المادية لهذه المدة، ومقدار الضغط النفسي الذي تعرضوا له!؟.
ثم سألتها: هل هناك في الأسرة من يعاني من حساسية الصدر أو الأنف أو الجلد؟!.
ردت بحديثها الهادئ الخافت وكأنها تتكلم من بئر سحيق: أنا يا دكتور عندي حساسية صدر وجيوب أنفية!؟.
ثم سألتها: لعل هذه جذور وراثية لما تعانيه ابنتكم!.
ووجدتها تضيف وكأنها فضفضة: المشكلة أنني أعاني من مرض السكري!.
وقبل أن أتكلم: أضافت: وممكن قد تأخرت عليها في الكشف بسبب الوعكة التي أصابتني عندما كنت في جلسة غسيل الكلى الأخيرة وذلك لأنني أعاني من الفشل الكلوى!.
والعجيب أنها بكلماتها؛ والتي كانت وكأنها قصف عنيف لسويداء قلبي؛ قد لاحظت ذهولي وصمتي إلا من دعوات بالعافية والصبر والدهشة؛ وانا أحتقر نفسي؛ واتذكر كم نحن جاحدون لفضل ربنا علينا، وكم من نعم لا نحصيها؛ وأهمها العافية!.
وأذهلني أنها لاحظت شدة تأثري؛ فزادت من قصفها وفضفضتها النازفة: والله يا دكتور؛ كله يهون أمام ما اكتشفه الأطباء عنديوأنا في الخليج من حقيقة مؤلمة؛ وهي أنني أعاني من مرض (الذئبة الحمراء)!.
ولذلك نصحهم الأطباء بعدم تكرار الحمل وإنجاب الأطفال!؟.
ولأول مرة عندما يحدثني أحد بهمومه؛ تنازعتني رغبتان:
الأولى؛ هي أن أتمنى أن أصارحه بأن يصمت ليريحني من كثرتها وشدتها وعنفها!.
والأخرى؛ أن يستمر لعلي أفيق من جحودي وغفلتي عن نعم مولاي عليّ!.
ثم طيبت خاطرها؛ ببعض الكلمات المطمئنة وأن حالة ابنتها ستكون بخير؛ وأنا أتحاشى النظر إليها حتى لا اكشف عمق تأثري بابتلاءاتها وصبرها وتسليمها وبساطتها وابتسامتها التي لا تفارقها!.
ثم سررت عندما وجدتها تحافظ على طاعة ربها وصلاتها؛ وذلك حتى لا يضيع كم الثواب الذي تجنيه من هذه البليات هباءاً منثوراً!.
وتطرق الحديث عن احوالهما المادية؛ والتي فجرت الكثير من الهموم والابتلاءات الأخرى؛ والتي لا تطيقها الجبال!.
فزوجها الطيب الصامت؛ عاد لممارسة عمله مع والده في محلهم المتواضع القديم؛ وذلك بعد عودتهم من الخليج بعد خمس سنوات غربة!.
وعندما نصحته؛ أن يمتنع عن التدخين رحمة بصحته وصحة ابنته التي تتأثر بالتدخين!.
ثم لم لا يحاول زيادة دخله عن طريق العمل على تاكسي مثلاً!.
فاخبرني بمزيد من همومهم؛ فقد نهوا عقده لأنه تعرض لحادث أثر على ذراعيه فلا يستطيع القيادة!.
كما أخبرني أن هذا الحادث كان من أسباب زيادة مشاكلهم المادية؛ خاصة بوفاة حماته في هذا الحادث!!!!؟.
فانعقد لساني عن التعليق على هذا الكم من الاختبارات القاسية؛ إلا من أذكار أدعو فيها لهم ولنا ولكل مبتلى؛ أن يهبنا مولانا نعمة العافية!.
والأمر الأعجب؛ أنني أثناء صمتي سمعت الشيخ المنشاوي رحمه الله يتلو هذه الآية التي تهزني دوماً:
وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد8)
فلطفت جو الحوار؛ بقولي لهما هكذا مولانا يرسل رسالته السريعة الآن؛ التي تسرِّي عنا وتبشرنا وتفتح باب الأمل وحسن الظن به؛ فتطمئن كل منا؛ أنه لست وحدك في هذا الوجود الذي يديره مولاك كما يدير شؤونك بدقة.
فلا تتعجل إجابة دعوة لخيرٍ تتمناه أو لشرٍ تريد دفعه أو لفرجٍ تترجاه أو لظالمٍ تحلم بقهره!.
فتدبيره سبحانه وموعد ومقدار فرجه وكل شيء عنده بمقدار وتوقيت وحكمة وعدل ومصلحة لا نعلمها!؟.
فنصحتهما؛ أن هذه الدنيا دار هموم وتعب ونصب؛ وليس هناك إنسان بلا هموم؛ فلا ينبغي أن نغضب ربنا حتى يعوضنا في الدنيا قبل الآخرة.
وودعتهما داعياً لهما ولطفلتهما بالعافية!.
ثم أغلقت الباب؛ وخررت ساجداً في سجدة شكر عميقة لمولاي!.
وكلي رعب وخوف من أقدار ربي وحكمته!.
ومن قدر جحودنا وجهلنا لفن شكر النعمة وحفظها وتنميتها!.
وتذكرت الدعاء الذي لا أنساه ليل نهار وأكرره كما جاء عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: سَلِ اللهَ الْعَافِيَةَ.
فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ.
فَقَالَ لِي: يَا عَبَّاسُ؛ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ“. [الترمذي وصححه الألباني]
فاللهم إنا نسألك العافية!.
واستشعرت مع سجدتي حلاوة ومتعة هذه المناجاة السليمانية الجليلة الخاشعة والملهمة:
"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ"[النمل19 والأحقاف15]
فكلما استشعرت عظم نعم مولاك عليك؛ استشعرت معها عظم عجزك على شكر النعمة. وكيفية حفظها وتنميتها؟!.
فتناجيه؛ مولاي أوزعني وألهمني ووفقني وحرِّضني وحفِّزني لأتقن فن شكر نعمك العظيمة علينا.




ثم ...
د. حمدي شعيب
(21 يونيو 2018م)

ليست هناك تعليقات: